الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
واستمر الملك الظاهر برقوق يومه وليلته على ظهر فرسه بسلاحه وحوله مماليكه وخواصه. قال الوالد فيما حكاه بعد ذلك لمماليكه وحواشيه: وبات كل منا على فرسه على أن غالبنا به الجراح الفاشية المنكية وهو مع ذلك بسلاحه على فرسه ولم يغف أحد منا تلك الليلة من السرور الذي طرقنا وأيضًا من الفكر فيما يصير أمرنا بعد ذلك إليه غير أننا حصل لنا ولخيولنا راحة عظيمة ببياتنا تلك الليلة في مكان واحد. وتشاورنا فيما نفعل من الغد وكذلك السلطان الملك الظاهر فإنه أخذ يتكلم معنا فيما يرتبه من الغد في قتال منطاش ونائب الشام فما أصبح باكر نهار الاثنين إلا وقد رتبنا جميع أحوالنا وصار الملك الظاهر في عسكر كثيف وتهيأنا لقتال منطاش وغيره. وبعد ساعة إذا بمنطاش قد أقبل من الشام في عالم كبير من عسكر دمشق وعوائها وممن تراجع إليه من عسكره بعد الهزيمة فتواقعنا فحصل بيننا وقعة من شروق الشمس إلى غروبها ووقع بيننا وبينهم قتال لم يعهد مثله في هذا العصر. وبذل كل منا ومنهم نفسه فقاتلنا عن أرواحنا لا عن أستاذنا لأننا تحقق كل منا أنه إن انهزم بعد ذلك لا بقاء له في الدنيا والمنطاشية أيضًا قالوا كذلك. وانكسر كل منا ومنهم غير مرة وتراجع. هذا والملك الظاهر يكر فينا بفرسه كالأسد ويشجع القوم ويعدهم ويمنيهم ثم قصدني شخص من الأمراء يقال له آقبغا الفيل وحمل علي فحملت عليه وطعنته برمحي ألقيته عن فرسه فرآه الملك الظاهر فسأل عني فقيل له: تغري بردي فتفاءل باسمي. وقال ما معناه: الله لا ينولني ما في خاطري إن كنت ما أرقيك إلى الرتب العالية. انتهى. قلت: ومعنى اسم تغري بردي باللغة التركية: الله أعطى فلهذا تفاءل الملك الظاهر به لما قيل له تغري بردي. واستمر كل من الطائفتين تبذل نفسها لنصرة سلطانها إلى أن أرسل الله سبحانه وتعالى في آخر النهار ريحًا ومطرًا في وجه منطاش ومن معه فكانت من أكبر الأسباب في هزيمته وخذلانه. ولم تغرب الشمس حتى قتل من الفريقين خلائق لا يحصيها إلا الله تعالى: من الجند والتركمان والعربان والعامة. وولى منطاش هو وأصحابه منهزمًا إلى دمشق على أقبح وجه. وعاد الملك الظاهر برقوق بمماليكه إلى مخيمه بالمنزلة المذكورة ولم يكن في أحد من عسكره منعة أن يتبع منطاش ولا عسكره. واستمر الملك الظاهر بمزلة شقحب سبعة أيام حتى عزت عنده الأقوات وأبيعت البقسماطة بخمسة دراهم فضة وأبيع الفرس بعشرين درهمًا والجمل بعشرة دراهم وذلك لكثرة الدواب وقلة العلف. وغنم أصحاب الملك الظاهر أموالًا جزيلة. وفي مدة إقامة الملك الظاهر بشقحب قدم عليه جماعة كبيرة من الأمراء والتركمان والعربان والمماليك. ثم جمع الملك الظاهر من معه من الأمراء والأعيان بحضرة الخليفة والقضاة وأشهد على الملك المنصور حاجى بخلع نفسه من السلطنة وحكم بذلك القضاة. ثم بويع الملك الظاهر برقوق بالسلطنة وأثبت القضاة بيعته وخلع على الخليفة والقضاة. ثم ولي الأمير إياس الجرجاوي نيابة صفد والأمير قديد القلمطاوي نيابة الكرك والأمير آقبغا الصغير نيابة غزة. ثم تهيأ الملك الظاهر للعود إلى الديار المصرية ورحل من شقحب فأتاه عند رحيله منطاش بعسكر الشام ووقف على بعد فاستعد الملك الظاهر للقائه فلم يتقدم منطاش. ثم ولى منطاش إلى ناحية دمشق فأراد الملك الظاهر أن يتبعه فمنعه من ذلك أعيان دولته وقالوا له: أنت سلطان مصر أم سلطان الشام امض إلى مصر واجلس على تخت الملك فتصير الشام وغيرها في قبضتك. فصوب الملك الظاهر هذا الرأي وسار من وقته بمن معه من الملك المنصور والخليفة والقضاة إلى جهة الديار المصرية. ثم أرسل الملك الظاهر يأمر منصور حاجب غزة بالقبض على حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزة فقبض عليه واستولى على مدينة غزة وقيد ابن باكيش المذكور وبعث به إلى الملك الظاهر فوافاه بمدينة الرملة فأوقفه بين يديه ووبخه ثم ضربه بالمقارع ثم حمله معه إلى غزة فضربه بها أيضًا ضربًا مبرحًا. وكان يوم دخول السلطان الملك الظاهر إلى غزة يوم مستهل صفر من سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة. وأما الديار المصرية فإنه أشيع بكسرة الملك الظاهر لمنطاش يوم رابع عشر المحرم وهو يوم الوقعة قاله الشيخ تقي الدين المقريزي - رحمه الله - وهذا شيء من العجائب. وفي هذه الأيام ورد من الفيوم محضر على نائب الغيبة مفتعل بأن حائطًا سقط على الأمراء المسجونين بالفيوم ماتوا تحته وهم: الأمير تمرباي الحسني حاجب الحجاب وقرابغا الأبو بكري أحد مقدمي الألوف وطوغاي تمر الجركتمري أحد أمراء الألوف أيضًا ويونس الإسعردي الرماح الظاهري وقازان السيفي وتنكز العثماني وأردبغا العثماني وعيسى التركماني. قال المقريزي: هذا والكتب المزورة ترد على أهل مصر في كل قليل بأن السلطان الملك المنصور انتصر على الملك الظاهر برقوق وملك الشام وأن الظاهر هرب فدقت البشائر لذلك أيامًا ولم يمش ذلك على أعيان الناس مع أن الفتنة لم تزل قائمة في هذه المدة بين الأمير صراي تمر نائب الغيبة وبين الأمير تكا الأشرفي المقيم بقلعة الجبل وكل منهما يحترز من الآخر. وأتفق مع ذلك أن الأمراء والمماليك الظاهرية الذين سجنوا بخزانة الخاص من القلعة زرعوا بصلًا في قصريتين فخار وسقوهما فنجب بصل إحدى القصريتين ولم ينجب الآخر فرفعوا القصرية التي لم ينجب بصلها فإذا هي مثقوبة من أسفلها وتحتها خلو فما زالوا به حتى اتسع وأفضى بهم إلى سرداب مشوا فيه حتى صعد بهم إلى طبقة الأشرفية من قصور القلعة القديمة وكان منطاش سد بابها الذي ينزل منه إلى الإسطبل السلطاني فعاد الذين مشوا وأعلموا أصحابهم فقاموا بأجمعهم وهم نحو الخمسمائة رجل ومشوا فيه ليلة الخميس ثاني صفر وقد عملوا عليهم الأمير بطا الطولوتمري الظاهري رأسًا وحاولوا باب الأشرفية حتى فتحوه فثار بهم الحراس الموكلون بحفظ الباب وضربوا مملوكًا يقال له تمربغا فقتلوه وكان ابتدأ بالخروج فبادر بطا بعده ليخرج فضربه الحارس ضربة كما ضرب تمربغا قبله سقط منها بطا إلى الأرض ثم قام وضرب بقيده الرجل الحارس ضربة كما ضربه فصرعه وخرج البقية. وصرخوا المماليك: ياتكا يا منصورا وجعلوا قيودهم سلاحهم يقاتلون بها. وقصدوا الإسطبل السلطاني فانتبه صراي تمر فسمع صياحهم تكا يا منصور فلم يشك أن تكا ركب عليه ليأخذه بغتة لما كان بينهما من التخاصم. وقوي خوفه فنهض في الحال ونزل من الإسطبل من باب السلسلة وتوجه إلى بيت الأمير قطلوبغا الحاجب وكان قريبًا من الإسطبل بالرميلة وملك بطا ورفقته الإسطبل واحتوى على جميع ما كان فيه من قماش صراي تمر وخيله وسلاحه وقبض على المنطاشية وأفرج عن المحبوسين من الظاهرية وأخذ الخيول التي كانت هناك. وأمر في الوقت بحق الكوسات فدقت في الوقت نحو ثلث الليل الأول فاستمروا على ذلك إلى أن أصبحوا يوم الخميس. وندم صراي تمر على نزوله من الإسطبل ولبس هو وقطلوبغا الحاجب آلة الحرب وأرسلوا إلى تكا بأن يقاتل المماليك الظاهرية من أعلى القلعة وهم يقاتلونهم من تحت فرمى تكا عليهم من الرفرف والقصر وساعده الأمير مقبل أمير سلاح ودمرداش القشتمري بمن معه من مماليكهم والمماليك المقيمين بالقلعة فقاتلهم المماليك الظاهرية. وتسامعت المماليك الظاهرية البطالة ومن كان مختفيًا منهم فجاؤوهم من كل مكان وكذلك المماليك اليلبغاوية وغيرهم من حواشي الملك الظاهر برقوق ومن حواشي يلبغا الناصري وغيره من الأمراء الممسوكين وكبسوا سجن الديلم وأخرجوا من كان به محبوسًا من المماليك وغيرهم. ثم بعثوا إلى خزانة شمائل فكسروا بابها وأخرجوا من كان بها أيضًا من المماليك اليلبغاوية والظاهرية وغيرهم ثم فعلوا ذلك بحبس الرحبة فقوي أمر بطا ورفقته وكثر جمعهم فخاف حسين بن الكوراني وهرب واختفى. ثم ركب الأمير صراي تمر والأمير قطلوبغا حاجب الحجاب في جمع كبير من مماليكهم وغيرها وخرجا لقتال بطا وأصحابه فنزل بطا بمن معه وقد تهيأ للقتال وقد صار في جمع كبير واجتمعت عليه العوام لمعاونته فلما تصاففا خامر جماعة من المنطاشية وجاؤوا إلى بطا وصدم بطا المنطاشية فكسرهم فانحازوا إلى مدرسة السلطان حسن فلما رأى تكا ذلك خرج إلى الطبلخاناه ورمى على بطا وأصحابه بالنشاب ومدافع النفط فنزل طائفة من الظاهرية إلى بيت قطلوبغا وملكوه ونقبوا منه نقبًا طلعوا منه إلى المدرسة الأشرفية بالصوه وصعدوا إلى سطحها تجاه الطبلخاناه السلطانية ورموا على من بالطبلخاناه من أعوان تكا فانهزموا. فملك الظاهرية الطبلخاناه وحاصروا من هو بمدرسة السلطان حسن وكان بها طائفة من التركمان قد أعدهم منطاش لحفظها فصاحوا وسألوا الأمان لشدة الرمي عليهم بمكاحل النفط فانهزم عند ذلك أيضًا من كان من الرماة على باب المدرج أحد أبواب القلعة وسارت الظاهرية واليلبغاوية إلى بيوت الأمراء فنهبوها. كل ذلك والقاهرة في أمن مع عدم وجود من يحفظها. ولم يمض النهار حتى وصل عدد الظاهرية إلى ألف وأمدهم ناصر الدين أستادار منطاش بمائة ألف درهم. ثم طلب بطا ناصر الدين محمد بن العادلي وأمره أن يتحدث في ولاية القاهرة عوضًا عن ابن الكوراني فدخلها ابن العادلي ونادى فيها بالأمان والدعاء للملك الظاهر برقوق فسر الناس سرورًا زائدًا. ثم في يوم الجمعة ثالث صفر سلم الأمير تكا قلعة الجبل إلى الأمير سودون الشيخوني النائب. ثم أقام بطا في ولاية القاهرة. منجك المنجكي عوضًا عن ابن العادلي فركب ودخل القاهرة ونادى أيضًا بالأمان والدعاء للسلطان الملك الظاهر برقوق. وفيه نزل الأمير سودون النائب من القلعة ومعه تكا الأشرفي ودمرداش القشتمري ومقبل السيفي أمير سلاح إلى عند الأمير بطا فقبض بطا عليهم وقيدهم وبالغ في إكرام الأمير سودون النائب وبعثه إلى الأمير صراي تمر فنزل سودون إلى صراي تمر وما زال به حتى كفه عن الرمي وأخذه هو وقطلوبغا وسار فتكاثر العامة عليهما يريدون قتلهما والأمير سودون النائب يمنعهم من ذلك أشد المنع فلم يلتفتوا إليه ورجموهما رجمًا متتابعًا كاد يهلك الجميع فاحتاجوا إلى الرمي بالنشاب عليهم وضربهم بالسيوف فقتل منهم جماعة كبيرة فطلع سودون النائب بهما وبمن كان معهما إلى الإسطبل فقيدهم بطا أيضًا وسجنهم وأمر بمن في المدرسة من المقاتلة فنزلوا كلهم. وأذهب الله تعالى الدولة المنطاشية من مصر في نحو ثلاثة أيام كأنها لم تكن وركب الأمير سودون الشيخوني النائب وعبر إلى القاهرة والمنادي ينادي بين يديه بالأمان والدعاء للملك الظاهر برقوق. وأرسل إلى خطباء الجوامع فدعوا له في خطبة الجمعة. وأطلق بطا زكرياء المخلوع عن الخلافة والشيخ شمس الدين صور الركراكي المالكي وسائر من كان بالقلعة من المسجونين. وصار بطا يتتبع المنطاشية ويقبض عليهم كما كان منطاش يتتبع الظاهرية ويقبض عليهم. وفي أثناء ذلك قدم أحمد بن شكر الدليل وأشاع الخبر بالقاهرة بأن الملك الظاهر برقوقا قادم إلى الديار المصرية ثم قدم خلبان العيسوي الخاصكي وأخبر برحيل الملك الظاهر برقوق من مدينة غزة في يوم الخميس ثاني صفر فدقت البشائر وتخلق الظاهرية بالزعفران. وكتب بطا للسلطان يخبره بما اتفق وأنهم ملكوا ديار مصر وأقاموا الخطبة باسمه وبجميع ما وقع لهم مفصلًا وبعثوا بهذا الخبر الشريف عنان بن مغامس ومعه آقبغا الطولوتمري المعروف باللكاش أحد المماليك الظاهرية في يوم السبت رابع صفر ثم كتب بطا إلى سائر الأعمال بالقبض على المنطاشية والإفراج عن الظاهرية وإرسالهم إلى الديار المصرية. ثم طلب بطا حسين بن الكوراني في الإسطبل فلما طلع أراد المماليك الظاهرية قتله لقبح ما فعل فيهم فشفع فيه سودون النائب. ثم خلع عليه بطا وأعاده إلى ولاية القاهرة وأمره بتحصيل المنطاشية فنزل في الحال ونادى: من قبض على مملوك منطاشي أو أشرفي فله كذا وكذا. ثم قبض بطا على الأمير قطلوبغا والأمير بوري صهر منطاش والأمير بيدمرشاد القصر والأمير صلاح الدين محمد بن تنكز وحبسهم بالقلعة ثم حصن بطا القلعة تحصينًا زائدًا ورتب الرماة والنفطية والرجال حتى ظن كل أحد أنه يمنع الملك الظاهر من طلوع القلعة. قلت: وكان الأمر كما ظنه الناس حسب ما حكاه الوالد بعد ذلك كما سنذكره الآن في محله. قال: وكثر الكلام في أمر بطا ثم أمر الفخري بن مكانس بعمل سماط في الإسطبل السلطاني فصار الأمراء والمماليك بأجمعهم يأكلون منه في كل يوم عند الأمير بطا. ثم قدم كتاب الملك الظاهر إلى بطا على يد سيف الدين محمد بن عيسى العائدي يأمره بتجهيز الإقامات إليه. ثم قدم كتاب الملك الظاهر بتفصيل الوقعة بينه وبين منطاش ثم قدم كتاب آخر عقيبه كل ذلك ولم تطمئن النفوس بعود الملك الظاهر إلى ملكه ولا ارتفع الشك بل كان بطا يخشى أن يكون ذلك مكيدة من مكايد منطاش وهو ينتظر جواب كتابه للملك الظاهر حتى قدم آقبغا الطولوبمري اللكاش وقد ألبسه الملك الظاهر خلعة سنية شق بها القاهرة فعند ذلك تحقق كل أحد بنصرة الملك الظاهر برقوق ونودي بالأمان والاطمئنان ومن ظلم أو قهر فعليه بباب الأمير بطا. ثم قبض بطا على حسين بن الكوراني وقيده بقيد ثقيل جدًا ونهبت داره وصار الصارم يأخذ ابن الكوراني في الحديد كما يؤخذ اللصوص ويضربه ويعصره. ثم نقل من عند الصارم الوالي إلى الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص شاد الدواوين فعاقبه أشد عقوبة. وفي تاسعه قدم تغري بردي البشبغاوي الظاهري وهو والد كاتبه إلى القاهرة بكتاب السلطان يتضمن السلام على الأمراء وغيرهم وبأمور أخر. وأما ما وعدنا بذكره من أمر بطا وأنه كان حدثته نفسه بملك مصر في الباطن أفقد حكى لي الوالد - رحمه الله - قال: لما قدمت إلى مصر تلقاني بطا وسلم علي وعانقني وأخذ يسألني عن أستاذنا الملك الظاهر برقوق وكيف كانت الوقعة بينه وبين منطاش وصار يفحص عن أمره حتى رابني أمره فكان من جملة ما سألني عنه بأن قال: يا أخي تغري بردي مع أستاذنا صبيان ملاح شجعان أم مماليك ملفقة فقلت: مع أستاذنا جماعة إذا أجروا خيولهم هدموا باب السلسلة أنقابها وأقلهم أنت وأنا. إيش هذا السؤال أما تعرف أغواتك وخشداشيتك فقال: صدقت وكم مثلثا في خجداشيتنا عند أستاذنا! وأخذ ينتقل بي إلى كلام آخر بما هو في مصالح السلطان الملك الظاهر. انتهى. وعند قدوم الوالد إلى الديار المصرية تزايد سرور الناس وفرحهم وتحققوا عود الملك الظاهر ثم قدم تنبك الحسني الظاهري المعروف بتنم من الإسكندرية وكان أرسله بطا لنائب الإسكندرية وقد امتنع من الإفراج عن الأمراء المسجونين إلا بكتاب السلطان. ثم ألزم بطا الفخر بن مكانس بتجهيز الإقامات والشقق الحرير للفرش في طريق الملك الظاهر حتى يمشي عليها بفرسه عند قدومه إلى القاهرة. ثم
وقبق باي السيفي ومقبل الرومي الطويل وألطنبغا العثماني وعبدوق العلائي وجرجي الحسني وأربعة أمراء أخر. وفي عاشره شدد العذاب على ابن الكوراني وألزم بحمل مائة ألف درهم فضة ومائة فرس ومائة لبس حربي. وفي حادي عشر صفر قدم البريد بنزول السلطان الملك الظاهر إلى منزلة الصالحية فخرج الناس أفواجًا إلى لقائه ونودي بزينة القاهرة ومصر فتفاخر الناس في الزينة ونزل السلطان بعساكره إلى العكرشة في ثالث عشر صفر. وأما أمر منطاش وما وقع له بعد ذلك وبقية سياق أمر الملك الظاهر برقوق ودخوله إلى القاهرة وطلوعه إلى قلعة الجبل وجلوسه على تخت الملك يأتي ذكر ذلك كله مفضلًا في ذكر سلطنته الثانية من هذا الكتاب بعد أن نذكر من توفي من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة التي حكم في غالبها على مصر الملك المنصور حاجي ثم نعود إلى ذكر الملك الظاهر وسلطنته الثانية - إن شاء الله تعالى -. وأما الملك المنصور حاجي فإنه عاد إلى ديار مصر صحبة الملك الظاهر برقوق محتفظًا به وهو في غاية ما يكون من الإكرام وطلع إلى القلعة وسكن بها بالحوش السلطاني على عادة أولاد الأسياد ودام عند أهله وعياله إلى أن مات بها في ليلة الأربعاء تاسع عشر شوال سنة أربع عشرة وثمانمائة ودفن بتربة جدته لأبيه خوند بركة بخط التبانة بالقرب من باب الوزير خارج القاهرة بعد أن تسلطن مرتين. وكان لقب في أول سلطنته بالملك الصالح وفي الثانية بالملك المنصور ولا نعلم سلطانًا غير لقبه غيره. ومات الملك المنصور هذا عن بضع وأربعين سنة وقد تعطلت حركته وبطلت يداه ورجلاه مدة سنين قبل موته. وكان ما حصل له من الاسترخاء من جهة جواريه على ما قيل: إنهن أطعمنه شيئًا بطلت حركته منه وذلك لسوء خلقه وظلمه. حدثني غير واحد من حواشي الملك الظاهر برقوق ممن كان يباشر أمر الملك المنصور المذكور قال: كان إذا ضرب أحدًا من جواريه يتجاوز ضربه لهن الخمسمائة عصاة فكان الملك الظاهر لما يسمع صياحهن يرسل يشفع فيهن فلا يمكنه المخالفة فيطلق المضروبة وعنده في نفسه منها كمين كونه ما اشتفى فيها. وكان له جوقة مغان كاملة من الجواري كما كانت عادة الملوك والأمراء تلك الأيام نحو خمس عشرة واحدة يعرفن من بعده بمغاني المنصور وكن خدمن عند الوالد بعد موته فلما صار الملك الظاهر برقوق يشفع في الجواري لما يسمع صياحهن بقي المنصور إذا ضرب واحدة من جواريه يأمر مغانيه أن يزفوا بالدفوف وتزعق المواصيل فتصيح الجارية المضروبة فلا يسمعها الملك الظاهر ولا غيره ففطن بذلك حريم الملك الظاهر وأعلموه الخبر وقلن له: إذا سمع زف المغاني في غير وقت المغنى فيعلم أن السلطان يضرب جواريه وخدمه فعلم الظاهر ذلك فصار كلما سمع المغاني تزف أرسل إليه في الحال بالشفاعة وله من ذلك أشياء كثيرة. وكان الملك الظاهر - قبل أن يتكسح - يرسل خلفه في مجلس أنسه وينادمه في غالب الأوقات وتكرر ذلك منه سنين. وكان إذا غلب عليه السكر تسفه على الملك الظاهر ويخاطبه باسمه من غير تحشم فيبتسم الملك الظاهر ويقول لحواشي الملك المنصور: خذوا سيدي أمير حاج وردوه إلى بيته فيقوم على حاله وهو مستمر في السب واللعن فيعظم ذلك على حواشي الملك الظاهر ويكلمون الملك الظاهر في عدم الاجتماع به فلا يلتفت إلى كلامهم فيصبح المنصور يعتذر للسلطان فيما وقع منه في أمسه فلما تكرر منه ذلك غير مرة تركه وصار لا يجتمع به إلا في الأعياد والمواسم فلما بطلت حركته انقطع عنه بالكلية. إلى ليلة الاثنين خامس جمادى الآخرة وحكم في باقيها الملك المنصور حاجي ولم يكن له في سلطنته إلا مجرد الاسم فقط والمتحدث في المملكة الأتابك يلبغا الناصري ثم تمربغا الأفضلي الأشرفي المدعو منطاش. وهي سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وفيها كان خلع الملك الظاهر برقوق من السلطنة وسلطنة الملك المنصور هذا كما تقدم ذكره. وفيها في ذي الحجة كانت وقائع بين الملك الظاهر برقوق وبين جنتمر نائب الشام بعد خروجه من سجن الكرك. وفيها توفي خلائق كثيرة بالطاعون والسيف. وكان الطاعون وقع بالديار المصرية في أيام الفتنة فكان من أجل ذلك أشد الطواعين وأعظمها خطبًا لما دها الناس من شدة الطاعون وأهوال الوقائع. فممن قتل من الأعيان: القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن أبي الرضا قاضي قضاة الشافعية بحلب. وخبره أن الملك الظاهر برقوقًا لما خرج من سجن الكرك ووافقه الأمير كمشبغا الحموي نائب حلب ثار عليه شهاب الدين هذا محاماة لمنطاش وجمع أهل بانقوسا وحرضهم على قتال كمشبغا المذكور وأفتى بجواز قتال برقوق فركب كمشبغا وقاتلهم فكسرهم وقتل كثيرًا من البانقوسية ممن ظفر به ففر شهاب الدين هذا إلى ظاهر حلب فأخذ قريبًا من حلب وأتي به إلى كمشبغا فقتله صبرًا وعمره زيادة على أربعين سنة. أثنى على علمه القاضي علاء الدين بن خطيب الناصرية والشيخ تقي الدين المقريزي رحمهما الله. وذكر عنه قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني - رحمه الله - مساوئ وقبائح نسأل الله تعالى السلامة في الدين ذكرناها في ترجمته في تاريخنا المنهل الصافي. قلت: والجمع بين هذه الأقوال هو أنه كان عالمًا. غير أنه كان خبيث اللسان يرتكب أمورًا شنيعة مشهورة عنه عند الحلبيين. وتوفي قتيلًا الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير قطلقتمر الخازندار بحلب: قتله أيضًا الأمير كمشبغا الحموي بحلب وقد قام بنصرة منطاش وقاتل كمشبغا فلما ظفر به كمشبغا وسطه في شوال. وإبراهيم هذا هو الذي كان وقع له مع الملك الظاهر برقوق ما وقع لما اتفق مع الخليفة المتوكل على الله ووافقهما الأمير قرط الكاشف على قتل الملك الظاهر برقوق ونم عليهم وظفر بهم برقوق وخلع الخليفة وحبسه ووسط قرط الكاشف وحبس إبراهيم هذا مدة ثم أطلقه لأجل أبيه قطلقتمر ثم أنعم عليه بإمرة. فلما خلع الملك الظاهر وحبس قام عليه إبراهيم هذا وانضم مع الناصري ومنطاش وصار من جملة أمراء الطبلخاناة ثم كان مع منطاش على الناصري فلما ملك منطاش الديار المصرية أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر واستقر أمير مجلس عوضًا عن الأمير أحمد بن يلبغا فلم يقنع بذلك وبدا منه أمور فأخرجه منطاش بعد أخذه الإمرة بدون السبعة أيام إلى حلب أمير مائة ومقدم ألف بها فدام بها حتى ثار أهل بانقوسا على كمشبغا نائب حلب ووافقهم إبراهيم هذا فظفر به كمشبغا ووسطه. قلت: ما كان جزاؤه إلا ما فعله به كمشبغا. وكان شجاعًا غير أنه كان يحب الفتن ويثير الشرور - عفا الله تعالى عنه -. وتوفي الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن أبي يزيد بن محمد المعروف بمولانا زادة السيرامي العجمي الحنفي والد العلامة محب الدين محمد ابن مولانا زادة في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم بالقاهرة. وكان إمامًا مفتنًا في علوم كثيرة وهو أول من ولي درس الحديث بالمدرسة الظاهرية البرقوقية ودام على ذلك إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره. وتوفي الأمير سيف الدين تلكتمر بن عبد الله أحد أمراء الطبلخانات بالطاعون في جمادى الأول. وكان من خواص الملك الظاهر برقوق. وتوفي قتيلًا الأمير سيف الدين جاركس بن عبد الله الخليلي اليلبغاوي الأمير آخور الكبير وعظيم دولة الملك الظاهر برقوق: قتل في محاربة الناصري خارج دمشق في يوم الاثنين حادي عشر شهر ربيع الأول وبقتله تخلخلت أركان دولة الملك الظاهر برقوق. وكان أميرًا مهابًا عاقلًا عارفًا خبيرًا سيوسًا. وله بالقاهرة خان يعرف بخان الخليلي ومآثر بمكة وغيرها. وخلف أموالًا كثيرة أخذها منطاش وفرقها في أصحابه. وتوفي الأمير يونس بن عبد الله النوروزي اليلبغاوي الدوادار الكبير: قتله الأمير عنقاء بن شطي أمير آل مرا بخربة اللصوص وهو عائد إلى الديار المصرية بعد انهزامه من الناصري. وكان أيضًا أحد أركان الملك الظاهر برقوق وإليه كان تدبير المملكة. وكان خدمه وباشر دواداريته من أيام إمرته. وكان عاقلًا مدبرًا حازمًا. وهو صاحب الخان خارج مدينة غزة وغيره معروفة عمائره باسمه ولا يحتاج ذلك إلى التعريف به فإننا لا نعلم أحدًا في الدولة التركية سمي بيونس الدوادار غيره ثم دوادار زماننا هذا الأمير يونس الدوادار السيفي آقباي انتهى. وتوفي الأمير سيف الدين بزلار بن عبد الله العمري ثم الناصري نائب الشام قتيلًا بها. وكان أصله من مماليك الملك الناصر حسن: اشتراه ورباه مع أولاده وقرأ القرآن وتأدب ومهر في الخط المنسوب وبرع في عدة علوم لا سيما علم الفلك والنجوم مع تقدمه في أنواع الفروسية والشجاعة المفرطة وأنواع الملاعيب مع ذكاء وفطنة وفوق وعقل ومحاضرة حسنة وحسن شكالة ولاه الملك الظاهر برقوق نيابة الإسكندرية ثم عزله وجعله من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية ثم خافه فقبض عليه ونفاه إلى طرابلس. فلما كانت نوبة الناصرية اتفق مع جماعة قليلة من أصحابه وملك طرابلس من ناشها أسندمر ووافق الناصري على قتال الملك الظاهر برقوق فلما ملك الناصري مصر خلع عليه بنيابة دمشق فولى دمشق ودام بها إلى أن قبض منطاش على الناصري فغضب بزلار المذكور للناصري وخرج عن الطاعة. فخادعه منطاش وأرسل ملطفات إلى جنتمر بنيابة دمشق فاتفق أمراء دمشق مع جنتمر ووثبوا عليه على حين غفلة فركب وقاتلهم وكاد يهزمهم لولا تكاثروا عليه ومسكوه وحبسوه بقلعة دمشق حتى أرسل منطاش بقتله فقتل وسنه نيف على خمسين سنة وكان من محاسن الدنيا. حدثني الشيخ موسى الطرابلسي قال: لما نفاه الملك الظاهر برقوق إلى طرابلس صحبته أقعد لتكبيسه فأجد أضلاعه صفيحة واحدة. انتهى. وتوفي الشيخ المعتقد حسن الخباز الواعظ. كان صاحب الشيخ ياقوت الشاذلي وتلقن منه وتزوج بابنته وترك بيع الخبز وانقطع بزاويته خارج القاهرة وجلس للوعظ حتى مات في حادي عشرين شهر ربيع الآخر ودفن بالقرافة. وكان للناس فيه اعتقاد حسن ولوعظه تأثير في القلوب. وتوفي الأمير سيف الدين سودون المظفري أتابك حلب قتيلًا بها بيد مماليك الأمير يلبغا الناصري حسب ما تقدم ذكره في ترجمة الملك الظاهر برقوق. وكان أصله من مماليك قطلوبغا المظفري أحد أمراء حلب وبها نشأ وخدم الأمير جرجي الإدريسي نائب حلب وصار خازنداره ثم صار من جملة أمراء حلب ثم ولاه برقوق حجوبية حلب ثم أتابكًا بها ثم نقله إلى نيابة حماة ثم إلى نيابة حلب بعد القبض على يلبغا الناصري ثم عزله الظاهر عن نيابة حلب بالأمير يلبغا الناصري المذكور وجعله أتابك حلب فكان بينهما مباينة كبيرة. وكان الناصري يزدريه ودام على ذلك حتى بلغ الظاهر خروج الناصري عن الطاعة وكتب ملطفًا لسودون المظفري هذا بنيابة حلب على عادته وأرسل الملك الظاهر بصلحهم فلما دخل سودون المذكور إلى دهليز دار السعادة أخذته سيوف مماليك الناصري حتى قتل. وتوفي الأمير سيف الدين صراي الطويل أحد أعيان المماليك اليلبغاوية خارج القاهرة في شهر ربيع الأول. وكان أحد أمراء الطبلخاناة بالديار المصرية. وتوفي قاضي القضاة جمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سليمان بن خير السكندري المالكي في يوم الأربعاء رابع عشر شهر رمضان وكنيته أبو القاسم. مولده بالإسكندرية في يوم الأحد سابع جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وبها نشأ وطلب العلم وسمع الحديث وتفقه بأبيه وغيره وبرع في الفقه والأصول وشارك في غيره وجلس مع الشهود بالثغر ثم ولي به نيابة الحكم ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية عوضًا عن قاضي القضاة علم الدين سليمان بن خالد البساطي بعد عزله في سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة. وحمدت سيرته إلى الغاية ودام مدة سنين إلى أن عزل بالقاضي ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون ثم أعيد بعد ذلك إلى أن مات قاضيًا وتولى بعده تاج الدين بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز الدميري. وتوفي إمام السلطان الملك الظاهر برقوق الشيخ شرف الدين عثمان بن سليمان بن رسول بن يوسف بن خليل بن نوح الكرادي - بتخفيف الراء المهملة - الحنفي المعروف بالأشقر في يوم الخميس رابع عشرين ربيع الآخر. كان أصله من تركمان البلاد الشمالية وأشتغل بها. ثم قدم القاهرة في عنفوان شبابه في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين واشتغل بها على علماء عصره حتى شارك في عدة فنون. وصحب الملك الظاهر في أيام إمرته فلما تسلطن الملك الظاهر قرره إمامه وتقدم في دولته ثم ولي قضاء العسكر ثم مشيخة الخانقاه البيبرسية إلى أن مات. وكان حسن الهيئة جميل الطريقة وهو والد القاضي محب الدين محمد بن الأشقر كاتب سر الديار المصرية الآن. وقد سألت من ولده المذكور عن أصل آبائه فقال: أصلنا من بلاد القرم وكان جدي عالمًا مفتنًا وكان والد جدي ملكًا بتلك البلاد انتهى. وتوفي الأمير سيف الدين إشقتمر بن عبد الله المارديني الناصري نائب حلب والشام غير مرة بطالًا بحلب في شوال كان أصله من مماليك صاحب ماردين وبعثه إلى الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون فرباه الناصر وأدبه. وكان يعرف ضرب العود ويحسن الموسيقى وكان ماهرًا في عدة فنون فقربه أستاذه الملك الناصر حسن وجعله من أعيان خاصكيته ثم أمره. ثم تنقل بعد موت أستاذه في عدة وظائف إلى أن ولاه الملك الأشرف شعبان نيابة حلب بعد وفاة قطلوبغا الأحمدي فباشرها نحو سنة ونصف وعزل بالأمير جرجي الناصري الإدريسي ثم ولي نيابة طرابلس عوضًا عن قشتمر المنصوري ثم أعيد بعد مدة إلى نيابة حلب عوضًا عن قشتمر المنصوري المذكور في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة بعد قتل يلبغا أستاذ الملك الظاهر برقوق - وكان إشقتمر خجداش يلبغا وصاحبه ومن أقرانه - فباشر نيابة حلب مدة ثم عزل وأعيد إلى نيابة طرابلس والسواحل عوضًا عن أيدمر الدوادار ثم أعيد إلى نيابة حلب مرة ثالثة في سنة أربع وسبعين وسبعمائة فباشر نيابة حلب إلى أن عزل في سنة خمس وسبعين بالأمير بيدمر الخوارزمي. وتولى نيابة دمشق فباشر نيابة دمشق أربعة أشهر وعزل وأعيد إلى نيابة حلب رابع مرة فطالت مدته في هذه الولاية. وغزا سيس وفتحها في سنة ست وسبعين وكان فتحًا عظيمًا وسر الملك الأشرف شعبان بفتحه وفيه يقول الشيخ بدر الدين حسن بن حبيب: السريع الملك الأشرف إقباله يهدي له كل عزيز نفيس لفا رأى الخضراء في شامة تختال والشقراء عجبًا تميس ساق إلى سوق العدى أدهما وساعد الجيش على أخذ سيس واستمر على نيابتها إلى أن عزل بالأمير منكلي بغا الأحمدي البلدي وقبض عليه وحبس بالإسكندرية ثم أطلق وتوجه إلى القدس بطالًا كل ذلك وإلى الآن لم يكن برقوق من جملة المماليك السلطانية بل كان في خدمة منجك ثم من بعده في خدمة الأسياد أولاد الملك الأشرف شعبان. ثم أعيد إلى نيابة حلب خامس مرة عوضًا عن تمرباي الأفضلي الأشرفي في سنة إحدى وثمانين ثم نقل إشقتمر بعد عشره أشهر إلى نيابة دمشق عوضًا عن بيدمر الخوارزمي في سنة اثنتين وثمانين فدام بدمشق إلى أن عزل في محرم سنة أربع وثمانين وتوجه إلى القدس بطالًا فدام بالقدس إلى أن أعيد إلى نيابة دمشق ثالث مرة من قبل الملك الظاهر برقوق في سنة ثمان وثمانين ثم عزل بعد أربعة أشهر ورسم له أن يتوجه إلى حلب بطالًا فدام بحلب إلى أن مات. وكان فيه كل الخصال الحسنة لولا حبه لجمع المال. وتوفي الشيخ الإمام العلامة بدر الدين محمد ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني الشافعي قاضي العساكر في يوم الجمعة سابع عشر شعبان ودفن بمدرسة أبيه بحارة بهاء الدين قراقوش. وكان أعجوبة في الذكاء والحفظ مفتنًا في عدة علوم. وهو أسن من أخيه قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني. وكان له نظم ونثر ومما ينسب إليه من الشعر: كسروا الجرة عمدا وسقوا الأرض شرابا قلت والإسلام ديني ليتني كنت ترابا وتوفي العلامة شمس الدين محمود بن عبد الله النيسابوري الحنفي المعروف بابن أخي جار الله في سابع جمادى الأولى. وكان عالمًا مفتنًا في علوم كثيرة. وتوفي تاج الدين عبد الله - وقيل: أمين الدين - بن مجد الدين فضل الله بن أمين الدين عبد الله بن ريشة القبطي المصري ناظر الدولة في سادس جمادى الأولى. وتوفي الأمير قرا محمد التركماني صاحب الموصل قتيلًا في هذه السنة وهو والد قرا يوسف صاحب تبريز وجد بني قرا يوسف ملوك العراق الذين خربت بغداد وغيرها في دولتهم وأيامهم. وتوفي الأمير الطواشي سابق الدين مثقال بن عبد الله الجمالي الحبشي الزمام وأصله من خدام الملك الأمجد والد الأشرف شعبان. تنقل في عدة وظائف إلى أن صار زمامًا للدور السلطانية فلما أن قتل الملك الأشرف عزله أينبك البدري وولى عوضه مقبلًا الرومي الطواشي اليلبغاوي. ودام مثقال بطالًا سنين وصادره برقوق وحصل له محن ثم أفرج عنه فصار يتردد إلى مكة والمدينة إلى أن مات ببدر من طريق الحجاز في ذي القعدة ودفن عند الشهداء في ليلة الجمعة أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وأربعة أصابع والله تعالى أعلم. سلطنة الظاهر برقوق الثانية تقدم ذكر الملك الظاهر برقوق وأصله وخبر قدومه من بلاد الجاركس إلى الديار المصرية وما وقع له بها إلى أن ملكها وتسلطن كل ذلك في ترجمته الأولى من هذا الكتاب. وذكرنا أيضًا ما وقع له من يوم خلع نفسه وسجن بالكرك إلى أن خرج من الحبس وقاتل منطاشًا وانتصر عليه وعاد إلى الديار المصرية بعد أن أعيد إلى السلطنة بمنزلة شقحب وأشهد على الملك المنصور بخلع نفسه ثم سار حتى نزل بالصالحية كل ذلك في ترجمة السلطان الملك المنصور حاجي مفصلًا فمن أراد شيئًا من ذلك فلينظره في محله ومن يومئذ نذكر رحيله من منزلة الصالحية إلى نحو الديار المصرية فنقول: ولما نزل الملك الظاهر برقوق على منزلة الصالحية في يوم عاشر صفر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة أقام بها نهاره وأعيان الدولة تأتيه فوجًا بعد فوج مثل أكابر الأمراء الذين كانوا بالحبوس وأعيان العلماء ومباشري الدولة وغيرهم. ثم رحل من الغد بعساكره وصحبته الخليفة والملك المنصور حاجي والقضاة وسار بهم يريد الديار المصرية إلى أن نزل بالريدانية خارج القاهرة في بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر صفر فخرج الأعيان من العلماء والأمراء إلى لقائه: فخرجت الأشراف مع السيد الشريف علي نقيب الأشراف وخرجت طوائف الفقراء بأعلامها أذكارها ومشايخ الخوانق بصوفيتها وخرجت العساكر المصرية بلبوسها الحربية - لأن العسكر المصري كان من يوم خروج بطا وأصحابه من السجن وملكوا الديار المصرية عليهم آلة الحرب - وخرجت اليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل ومعهم الشموع المشعولة. وخرج من الناس ما لا يحصيه إلا الله تعالى وعندهم من الفرح السرور ما لا يوصف وهم يصيحون بالدعاء له حتى لقوه وخاطبوه. فشرع الملك الظاهر يكلم الناس ويدنيهم ويرجع رؤوس النوب عن منعهم من السلام عليه وكلما دعا له شخص منهم رحب به. هذا وقد فرشت له الشقق حرير خارج الترب إلى باب السلسلة فلما وصل الملك الظاهر إلى الشقق المفروشة له تنحى بفرسه عنها وقدم الملك المنصور حاجي حتى مشى بفرسه عليها ومشى الملك الظاهر برقوق بجانبه خارجًا عن الشقق فصار الموكب كأنه للملك المنصور لا للظاهر فوقع هذا من الناس موقعًا عظيمًا ورفعوا أصواتهم له الدعاء والابتهال لتواضعه في حال غلبته وقهره له وكون المنصور معه كالأمير صارت القبة والطير على رأس الملك المنصور أيضًا والخليفة أمامهما وقضاة القضاة بين يدي الخليفة. وتناهبت العامة الشقق الحرير بعد دوس فرس السلطان عليها من غير أن يمنعهم أحد وكذلك لما نثر عليه الذهب والفضة تناهبته العامة. وكانت عادة ذلك كله للجمدارية فقصد الظاهر بذلك زيادة التحبب للعامة كونهم أظهروا المحبة له في غيبته وقاموا مع المماليك وصاروا مع مماليكه. وصار الملك الظاهر يعظم الملك المنصور في مشيه وخطابه ويعامله كما يعامل الأمير سلطانه إلى أن أدخله داره بالقلعة. ثم عاد الملك الظاهر إلى حيث نزل من القلعة وتفرغ عند ذلك لشأنه واستدعى الخليفة وقضاة القضاة والشيخ سراج الدين عمر البلقيني والأمراء وأعيان الدولة فجمد عقد السلطنة له وتجديد التفويض الخليفتي فشهد بذلك القضاة على الخليفة ثانيًا وأفيضت التشاريف الخليفتية على السلطان بسلطنته ثم أفيضت التشاريف السلطانية على الخليفة وركب السلطان الملك الظاهر من الإسطبل السلطاني من باب السلسلة بأبهة السلطنة وشعار الملك وطلع إلى القلعة ونزل إلى القصر وجلس على تخت الملك ودقت البشائر وعملت التهاني والأفراح بالقلعة وفي ثم قام السلطان ودخل إلى حرمه وإخوته ففرشت له أيضًا الشقق الحرير والشقق المذهبة تحت رجليه ونثر عليه الذهب والفضة ولاقته التهاني من خارج باب الستارة. ثم أصبح السلطان في يوم الأربعاء فأمر أن يكتب إلى ثغر الإسكندرية بالإفراج عن الأمراء المسجونين بها وإحضارهم إلى الديار المصرية. ثم خلع السلطان على فخر الدين بن مكانس صاحب ديوان الجيش باستقراره في وظيفته نظر الجيش عوضًا عن القاضي جمال الدين محمود القيصري العجمي بحكم توجهه مع منطاش إلى دمشق وخلع على الوزير موفق الدين أبي الفرج واستقر به في الوزارة ونظر الخاص وعلى ناصر الدين محمد بن آقبغا آص شاد الدواوين باستمراره. وأنعم على الأمير بطا الطولوتمري الظاهري بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وعين للدوادرية الكبرى وأخلع على الأمر قرقماس الطشتمري أستادارًا. ثم في سابع عشر صفر قدم الأمراء من الإسكندرية إلى بر الجيزة فباتوا به وعدوا في ثامن عشره وطلعوا إلى القلعة وهم سبعة عشر أميرًا: أعظمهم الأتابك يلبغا الناصري الذي كان خرج على الملك الظاهر وقبض عليه وحبسه بالكرك ثم الأمير ألطنبغا الجوباني نائب الشام الذي كان قبض على الملك الظاهر برقوق من بيت أبي يزيد وطلع به إلى القلعة نهارًا ثم الأمير الكبير قرادمرداش الأحمدي الذي كان الظاهر جعله أتابك العساكر بديار مصر وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار فتركه وتوجه إلى يلبغا الناصري المقدم ذكره والأمير ألطنبغا المعلم أمير سلاح - وهؤلاء الأربعة من أعيان اليلبغاوية خشداشية الملك الظاهر برقوق - ثم الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس الذي كان سببًا لكسرة عسكر الملك الظاهر بدمشق بهروبه إلى الناصري والأمير قردم الحسني اليلبغاوي رأس نوبة النوب والأمير سودون باق أحد أمراء الألوف اليلبغاوية والأمير سودون طرنطاي أحد الألوف أيضًا والأمير آقبغا المارديني الأستادار أحد الألوف وكشلي القلمطاوى وبجاس النوروزي - كلاهما أيضًا مقدم ألف - ومأمور القلمطاوي نائب حماة والكرك وألطنبغا الأشرفي أحد الألوف أيضًا ويلبغا المنجكي ويونس العثماني فوقف الجميع بين يدى الملك الظاهر برقوق وقبلوا الأرض له وهم في غاية ما يكون من الخجل والحياء منه بما تقدم منهم في حقه فرحب بهم الملك الظاهر وطيب خواطرهم ولم يذكر لهم ما فعلوه به ولا عتبهم عن شيء مما وقع منهم في حقه بل أكرمهم غاية الإكرام بكل ما يمكن القدرة إليه ثم أمرهم بالنزول إلى بيوتهم فنزل الجميع وهم في غاية السرور. ثم في يوم الإثنين العشرين من صفر جلس السلطان بالإيوان من القلعة المعروف بدار العدل وأخلع على الأمير سودون الفخري الشيخوني بنيابة السلطنة بالديار المصرية على عادته أولًا وعلى الأمير إينال اليوسفي اليلبغاوي باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية وعلى الأمير الكبير يلبغا الناصري صاحب الوقعة باستقراره أمير سلاح وعلى الأمير ألطنبغا الجرباني باستقراره رأس نوبة الأمراء وأطابكا وعلى الأمير كمشبغا الأشرفي الخاصكي باستقراره أمير مجلس وعلى الأمير بطا الطولوتمري الظاهري باستقراره دوادارًا كبيرًا - وهو الذي كان خرج من حبس القلعة وملك باب السلسلة في فتنة الملك الظاهر - وعلى الأمير طوغان العمري باستقراره أمير جاندار وعلى سودون النظامي باستقراره نائب قلعة الجبل ونزل الجميع بالخلع وتحتهم الخيول بالسروج الذهب والكنابيش الزركش إلى دورهم بعد أن خرجت الناس للفرجة عليهم فكان يومًا من الأيام المشهودة. ثم في يوم حادي عشرين صفر أخلع السلطان على الأمير بكلمش العلائي باستقراره أمير آخور كبيرًا وسكن بالإصطبل السلطاني. ثم في يوم الخميس ثالث عشرين صفر قرء عهد السلطان الملك الظاهر برقوق بدار العدل وخلع السلطان على الخليفة المتوكل على الله وأخلع على القاضي علاء الدين علي بن عيسى المقيري الكركي كاتب سر الكرك في كتابة سر مصر لما تقدم له من الأيادي على الظاهر في القيام معه بالكرك عوضًا عن القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله بحكم توجهه أيضًا مع ثم أخلع السلطان على بيجاس السودوني باستقراره في نيابة صفد. وفي سادس عشرينه قبض السلطان على حسين بن الكوراني وأمر به فعذب بأنواع العذاب. وفيه قدم البريد على السلطان من صفد بفرار الأمير طغاي تمر القبلاوي من دمشق إلى حلب في مائتين وواحد من المنطاشية. وفي سابع عشرين صفر استقر الأمير محمود بن علي الأستادار كان باستقراره مشير الدولة. وفي يوم الأربعاء تاسع عشرينه جلس السلطان الملك الظاهر بالميدان من تحت القلعة للنظر في أحوال الرعية والحكم بين الناس على العادة واستمر على ذلك في كل يوم أحد وأربعاء. وفي ثامن عشر شهر ربيع الأول أخلع السلطان على الشيخ محمد الركراكي المالكي باستقراره في قضاء المالكية بالديار المصرية عوضًا عن تاج الدين بهرام الدميري. والركراكي هذا هو الذي كان امتنع من الكتابة على الفتيا في أمر الملك الظاهر برقوق لما كتب عليها البلقيني وغيره من القضاة والعلماء وضربه منطاش بسبب عدم كتابته وحبسه إلى أن أطلقه بطا فيمن أطلق من سجن منطاش فعرف له الظاهر ذلك وولاه قضاء المالكية. وفيه استقر سعد الدين أبو الفرج بن تاج الدين مرسي المعروف بابن كاتب السعدي باستقراره في نظر الخاص عوضًا عن الصاحب موفق الدين وانفرد موفق الدين بالوزر. وفي خامس عشرين شهر ربيع الأول استقر الأمير ألطنبغا الجوباني رأس نوبة الأمراء في نيابة الشام عوضًا عن جنتمر أخي طاز بحكم انضمامه مع منطاش واستقر الأمير قرا قرادمرداش الأحمدي في نيابة طرابلس ورسم لهما الملك الظاهر في محاربة الأمير منطاش. وفي يوم السبت أول شهر ربيع الآخر استقر الأمير مأمور القلمطاوي في نيابة حماة واستقر أرغون العثماني في نيابة الإسكندرية وآلابغا العثماني حاجب - حجاب دمشق وأسندمر السيفي حاجب - حجاب طرابلس. وفيه أيضًا أنعم السلطان على كل من ألطنبغا الأشرفي وسودون باق وبجمان المحمدي بإمرة مائة بدمشق ورسم لهم أن يخرجوا نواب البلاد الشامية. وفي سابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور استقر سعد الدين نصر الله بن البقري في الوزارة عوضًا عن موفق الدين أبي الفرج واستقر الصاحب علم الدين سن إبرة في نظر الدولة. وفي رابع عشرينه قبض السلطان على الأمير سربغا الظاهري وعلى الأمير أيدكار العمري وعلى بكتمر الدوادار وعلى طشبغا الحسني وقرابغا وأرغون الزييني. وفيه أيضًا خلع السلطان على الأمير جلبان الكمشبغاوي الظاهري المعروف بقراسقل باستقراره رأس نوبة النوب بعد وفاة الأمير حسين قجا. كل ذلك والأخبار ترد على السلطان بأن المنطاشية تدخل في الطاعة شيئًا وفيه أخلع السلطان على الأمير يلبغا الناصري واستقر به مقدم العساكر المتوجهة لقتال منطاش وندبه للتوجه صحبة النواب وقال له: هو غريمك اعرف كيف تقاتله وجعل إليه مرجع العسكر جميعه. وفيه أيضًا خلع على نواب الشام خلع السفر. وأنعم السلطان على جماعة كبيرة من مماليكه وغيرهم بإمريات بالبلاد الشامية ورسم أيضًا لجماعة من أمراء مصر بالسفر صحبة الأمير يلبغا الناصري لقتال منطاش. وفي عاشر جمادى الأولى برزت أطلاب النواب والأمراء إلى الريدانية خارج القاهرة هذا بعد دخول الأمير قطلوبغا الصفوي في طاعة السلطان وحضوره إلى الديار المصرية بمن معه كما سيأتي ذكره. وكان من خبر قطلوبغا الصفوي أن منطاشًا جهزه على تجريدة من دمشق لمحاصرة مدينة صفد فلما قارب قطلوبغا صفد دخل هو وجميع من معه في طاعة السلطان. ثم قدم قطلوبغا المذكور بمن معه في ثالث عشر جمادى المذكورة وكان لقدومه يوم مشهود. وعند دخوله إلى القاهرة قدم البريد في إثره بأن منطاشًا لما بلغه مخامرة الصفوي بمن معه قبض على الأمير جنتمر أخي طاز نائب الشام وهو أعظم أصحابه وعلى ولده وعلى أستاداره ألطنبغا وعلى الأمير أحمد بن خوجي وعلى الأمير أحمد بن قجق وعلى كمشبغا المنجكي نائب بعلبك وعلى القاضي شهاب الدين أحمد بن عمر القرشي الشافعي قاضي دمشق وعلى عدة من الأمراء والأعيان هذا ومجيء المنطاشية يتداول إلى مصر شيئًا بعد شيء. وفي تاسع عشرينه استقر الأمير محمود بن علي الأستادار أستادارًا على عادته عوضًا عن الأمير قرقماس الطشتمري بعد وفاته. هذا والقتال عمال بالبلاد الشامية في كل قليل بين عسكر منطاش وعساكر السلطان. ثم قدم البريد بأن منطاشًا أخذ بعلبك بعدما حاصرها محمد بن بيدمر نحو أربعة أشهر وأنه وسط ابن الحنش وأربعة نفر معه. وفي سابع عشر جمادى الآخرة قدم البريد بأن منطاشًا لما بلغه قدوم العساكر لقتاله برز من دمشق وأقام بقبة يلبغا أيامًا ثم رحل نصف ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصة وهم نحو ستمائة فارس ومعه نحو سبعين حملًا ما بين ذهب وفضة وتوجه نحو قارا والنبك بعد أن قتل جماعة من المماليك الظاهرية وقتل الأمير ناصر الدين محمد بن المهمندار نائب حماة كان وأن الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق وأفرج عمن كان محبوسًا بها وملك القلعة وأرسل إلى النواب يعلمهم بذلك فلما سمع النواب ذلك ساروا إلى دمشق وملكوها من وفي سابع عشر جمادى الآخرة المذكور قدم البريد من دمشق بثلاثة عشر سيفًا من سيوف الأمراء المنطاشية الذين قبض عليهم بدمشق. ثم في حادي عشرينه قدم البريد أيضًا بثمانية سيوف أيضًا من المنطاشية ثم قدم البريد بسبعة سيوف أخر منهم سيف الأمير ألطنبغا الحلبي وسيف دمرداش اليوسفي. وفي ثالث عشرينه قدم البريد بأن الأمير نعير بن حيار قبض على الأمير منطاش فدقت البشائر لذلك ثم تبين كذب الخبر. وفي سابع عشرينه حضر الأمراء المقبوض عليهم من المنطاشية بدمشق. وفي يوم الخميس ثاني شهر رجب قدم القاضي عماد الدين أحمد بن عيسى المقيري قاضي الكرك إلى القاهرة بعد أن خرج الأعيان إلى لقائه وطلع إلى القلعة فلما وقع بصر السلطان عليه قام له ومشى لتلقيه خطوات وعانقه وأجلسه بجانبه وحادثه ساعة ثم قام ونزل إلى داره كل ذلك لما كان له على السلطان أيام حبسه بالكرك من الخدم. وفي ثاني عشر شهر رجب حضر من دمشق القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر والقاضي جمال الدين محمود العجمي ناظر الجيش ونزلا في بيوتهما من غير أن يجتمعا بالسلطان لتوغر خاطر السلطان عليهما لكونهما توجها إلى دمشق صحبة منطاش. وفي ثالث عشره أخلع السلطان على القاضي عماد الدين الكركي المقدم ذكره باستقراره قاضي قضاة الديار المصرية عوضًا عن القاضي بحر الدين محمد بن أبي البقاء فصار عماد الدين هذا قاضي قضاة مصر وأخوه علاء الدين المقدم ذكره كاتب سر مصر. ثم قدم الخبر على السلطان من حلب بأن الأمير كمشبغا الحموي نائب حلب لما انهزم من شقحب وتوجه إلى حلب جهز إليه منطاش من دمشق بعد عود الملك الظاهر إلى مصر عسكرًا عليه الأمير تمان تمر الأشرفي فوصل تمان تمر المذكور إلى حلب واجتمع به أهل بانقوسا وقاتلوا كمشبغا المذكور وحصروه بقلعة حلب نحو أربعة أشهر ونصف وأحرقوا الباب والجسر ونقبوا القلعة من ثلاثة مواضع فنقب كمشبغا على أحد النقوب من أعلاه ورمى على من به من فوق بالمكاحل واختطفهم بكلاليب الحديد وصار يقاتلهم من النقب فوق السبعين يومًا وهو في ضوء الشموع بحيث إنه لا ينظر شمسًا ولا قمرًا ولا يعرف الليل من النهار وقاسى شدائد ومحنًا. ودام ذلك عليه إلى أن بلغ تمان تمر المذكور فرار منطاش من دمشق فضعف أمره فثار عليه أهل بانقوسا ونهبوه فحضر حاجب حجاب حلب إلى الأمير كمشبغا وأعلمه بذلك فعبر كمشبغا الجسر في يوم واحد ونزل وقاتل أهل بانقوسا يومين وقد أقاموا عليهم رجلًا يعرف بأحمد بن الحرامي. فلما كان اليوم الثالث وقت العصر انكسر أحمد بن الحرامي المذكور وقبض كمشبغا عليه وعلى أخيه على نحو الثمانمائة من الأتراك والأمراء والبانقوسية فوسطهم كمشبغا بأجمعهم وضرب بانقوسا حتى صارت دكًا ونهب جميع ما فيها. ثم إن الكتاب يتضمن أيضًا أن كمشبغا بالغ في تحصين قلعة حلب وعمارتها وأعد بها مؤونة عشر سنين وأنه جمع من أهل حلب مبلغ ألف ألف درهم وعمر سور مدينة حلب وكان منذ خربه هولاكو خرابًا فجاء في غاية الحسن وعمل له بابين وفرغه في نحو الشهرين ونصف وكان أكثر أهل حلب يعمل فيه وأن الأمير شهاب الدين أحمد بن المهمندار والأمير طغجي نائب دوركي كان لهما قيام تام مع الأمير كمشبغا في هذه الوقعة. انتهى. قلت: يقال إنه قتل في واقعة كمشبغا مع الحلبيين بحلب نحو العشرين ألفًا من الفريقين. ثم أشيع بالقاهرة أن الأمير بطا الطولوتمري الدوادار يريد إثارة فتنة فتحرز الأمراء واعتدوا للحرب إلى أن كان يوم الاثنين عشرينه جلس السلطان بدار العدل على العادة ثم توجه إلى القصر ومعه الأمراء فتقدم الأمير بطا إلى السلطان وقال للسلطان: قد سمعت ما قيل عني وها أنا وحل سيفه وعمل في عنقه منديلًا كالمستسلم للموت فسأل السلطان الأمراء عما ذكره الأمير بطا وأظهر أنه لم يسمع شيئًا من ذلك فذكر الأمراء أن الأمير كمشبغا رأس نوبة تنافس مع الأمير بكلمش العلائي أمير آخور ثم وقع بين الأمير بطا ومحمود الأستادار مخاشنة في اللفظ فأشاع الناس ما أشاعوه فجمعهم السلطان وأصلح بينهم ثم حثهم على طاعته وحث المماليك أيضًا وطيب خواطر الجميع بلين كلامه ودهائه وفي النفس من ذلك شيء. ثم أحضر السلطان مملوكًا اتهم أنه هو الذي أشاع الفتنة فضرب ضربًا مبرحًا وسمر على جمل وشهر ثم سجن بخزانة شمائل فلم يعرف له خبر بعد ذلك وهو من المماليك الظاهرية. ثم قبض السلطان على الأمير يلبغا أحد أمراء العشرات وسفر ونودي عليه: " هذا جزاء من يرمي الفتن بين الأمراء. وسكنت الفتنة بعد أن كادت أن تثور. وبينما السلطان في ذلك وصل إليه الخبر من الشام بأن منطاشًا ونعير بن حيار جمعوا جمعًا كبيرًا من المماليك الأشرفية والتركمان والعربان وقصدوا النواب والأمير يلبغا الناصري مقدم العساكر فلما بلغ الناصري ذلك خرج بالعساكر هو والأمير ألطنبغا الجوباني نائب الشام وغيره من دمشق ونزل بسلمية وخلفوا الأمير الكبير أيتمش البجاسي بدمشق لحفظها فثار على أيتمش المذكور بدمشق بعد خروج العسكر منها جماعة من المماليك البيدمرية والطازية والجنتمرية في طوائف من العادة يريمون أخذ مدينة دمشق من أيتمش فأرسل أيتمش بطاقة من قلعة دمشق إلى سلمية يعلم الأمراء والنواب بذلك. فحالما سمع الناصري الخبر ركب ليلًا في طائفة من عسكره وقدم دمشق ومعه الأمير ألابغا العثماني حاجب حجاب دمشق وقاتل المذكورين قتالًا شديدًا قتل بينهما خلائق كثيرة من العامة والأتراك حتى انتصر الناصري وقبض على جماعة منهم ووسطهم تحت قلعة دمشق وقبض أيضًا على جماعة كثيرة فقطع أيديهم وهم نحو سبعمائة رجل - قاله الشيخ تقي الدين المقريزي - سامحه الله - وحبس جماعة أخر.
|